إنتاج الفسفاط من يعطّله؟ لماذا توقّف






شركة فسفاط قفصة قيل إنها شركة عملاقة لكن فيم هي كذلك؟ وما الذي تمثله بالنسبة إلى الاقتصاد الوطني فعليا؟ شركة توقفت أو تعطلت فيها آلة الانتاج. مشكل في حاجة إلى البحث الموضوعي والتشخيص المترفع عن الحسابات الضيقة والأجندات الغامضة.
التغطية الإعلامية
ليس بالجديد أن تكون المقاربة الاعلامية للمشكلات المزمنة لمنطقة الحوض المنجمي مطبوعة بطابع الخطابات التي تريد البحث عن أصل المشكل في غير الموضع الطبيعي. هذا طبعا الانطباع الأولي الذي ينتابنا وقد يكون فيه نظر بمجرد الاطلاع على المقال الخاص بتحديد أسباب تعطل انتاج الفسفاط، مقال يرجع كل ما يحصل إلى الذهنية العشائرية بالأساس وهو في ذلك يحافظ على روح التعامل الاعلامي الذي يريد أن يختزل ما هو مزمن في مجرد ما يعتقد أنه يمثل بداهة يمكن إدراكها دون حدس حسي أو عقلي والعثور عليها على قارعة الطريق كما قيل في المقاهي ولدى عامة القوم.
ليعلم الجميع ان مثل هذا التعاطي الاعلامي لن يزيد المشكل إلا تأزما لأنه لا يريد ولا يعمل على كشف الحقيقة بل يسعى إلى التأثيم وتحميل أبناء الجهة المسؤولية عن كونهم قبلوا أن يكونوا ضحايا وحطبا للحسابات. كل ذلك قد يمثل مدخلا مناسبا للحث لاحقا على جعل الحل الأمني العلاج الوحيد الذي يتناغم مع الذهنيات العشائرية حماية طبعا لهيبة الدولة. أما في ما يتعلق بما وقع توصيفه بالذهنية العشائرية فهو احد ابداعات دولة الحداثة الزائفة والتحديث المغشوش التي كرست مركزية الثقافة والمؤسسة والقيم وخاصة القدوة والمثال. أكثر من ذلك فهذه الذهنية ليست سمة جهة قفصة فقط بل الكل له عشيرة تسكنه لأن البعد العشائري سمة كل الشعوب العربية قاطبة وهي لذلك غير ناكرة بل مفتخرة لأن العشيرة هي التي انتصرت للعراق ضد الغزو الأمريكي الهمجي. فليس عيبا أن نكون أبناء عشائر ولكن العيب ان نحاكم لأننا أبناء عشائر أو لأننا تركنا كذلك. فالداء ليس في الانتماء القبلي ولكن في العصبية التي لها ألوان شتى منها العشائري والفكري والاعلامي والنقابي والجهوي والأسري وخاصة الايديولوجي المحنط. فكل يتعصب لعشيرته ويفردها بالمغانم ولو على حساب الوطن. إذن المحاصصة المفتعلة في جهة قفصة هي تجسيد لواقع دراماتيكي كرسته دولة الاستقلال المنقوص للتنمية الحقيقية وفي المقابل عملت على تليينه في جهات أخرى بضمان مقومات الحياة الكريمة والتنمية المستدامة المهدئة للنفوس والملطفة للطبائع، فليعلم كل من يدعي انه لا علم له أن الدولة والطرف الاجتماعي وحتى بعض مؤسسات المجتمع المدني كانت لعقود تعالج الأزمات بالمحاصصة العشائرية من قبل نخبة تدعي الحداثة والتقدمية والعيب طبعا ليس فيها ولكن في الدهماء الذين لا يفقهون كثيرا في تناقضات النخبة. إذن الأزمة ليست أزمة القاعدة ولكن النخبة التي لم تفهم بعد ان القاعدة أصبح لها السبق لأن النخبة عجزت عن ابداع حالة ثقافية مدنية لا تلغي القيمي في العشائري. لذلك فما وصف بكونه معطيات لا يراد لها أن ترى النور أي ما تعلق بالتحركات ذات الطابع العشائري ليست بالمعطيات ولكنه واقع تعفن بحكم التراكم وغياب الدولة والنخبة فتصرف القوم بما يعرفون.
المشكل العقاري
هو ليس بالمشكل فقط بل كارثة تفضح طبيعة المقاربة الرسمية لواقع الجهة التي عوقبت لأنها لم تكن مطيعة بالقدر الكافي وفي المقابل حسم نفس المشكل بآليات مختلفة في جهات أخرى لأنها أقرب إلى وجدان السلطان فحلت التنمية وشع الرخاء وتمدن القوم تبعا لا طبعا. أما في جهة قفصة فالمنشود كان تجذير الخلافات القبلية لتتعطل مبررات التنمية ويقع التشريع للحلول الأمنية فيدوم السلطان وتضمن السيادة بإلغاء حق المواطنة. فلو قسمت الأراضي بين الأهالي لزهدوا في مطلب التشغيل في قطاع المناجم الذي يستنزف الثروة المائية من أجل عيون الفسفاط الذي يتباكى عليه الجميع إلا أبناء الجهة لأنه جعلهم ضمأى كلأ ونارا وماء.
لماذا توقف إنتاج الفسفاط؟
لمن يريد هكذا البحث عمن يقف وراء تعطل انتاج الفسفاط نقول ان هذا المسعى لن يوصل إلا إلى تأصيل آليات التشخيص الأمني لأن السؤال نفسه يبحث عن طرف ما أو جهة ما يقع عليها وزر ما يحصل دون الحاجة إلى أرق السؤال وضرورات إزالة حجب المسكوت عنه. إنه من الأنسب أن نبحث في أسباب توقف الانتاج التي لا تتطلب كبير نظر فهي محصورة في التالي:
ـ الفساد الاداري والمالي
ـ غياب الارادة السياسية في ايجاد حلول جذرية
ـ حالة التهميش و«الحقرة»
ـ الغياب الكلي للحلول التنموية الفعلية
ـ حالة اليأس والاحباط من كثرة الوعود الزائفة
ـ الاحساس بغياب الدولة الراعية وتركها حالة فراغ مفزعة
ـ ما تمثله الشركة نفسها من نموذج فساد عملاق
ـ وضعية التلوث المدمرة لكل امكانات العيش التي لا يستطيع أن يطيقها ولو إلى حين ذوو الأقلام الناقدة هكذا من أعلى الربوة
ـ معادلة انتاج بدون تنمية
كل ما قيل يقف وراء توقف الانتاج ولكن خاصة داء الفساد الاداري الذي له نموذج فاضح في الجهة. إنه المشكل العقاري في منطقة برج العكارمة حيث تلاعب بعض ذوي النفوس المريضة بهذا الملف الحارق مما تسبب في تعطل آلة الانتاج وزاد في حالة الاحتقان في ظل غياب الهياكل الرسمية بل ربما تورط بعضها في ما حصل. لنبحث إذن ان كان أصل الورم في الذهنية المؤسساتية أو الشعبية حتى نصنع حالة وفاق مدني يحترم الحقوق ويعلي من شأن المصلحة العامة. فالعيب الأكبر أن يكون رجالات الدولة على مستوى جهوي وفي أعلى مستوى لهم يد في ما يحصل من حالة توتر واحتقان الناتجة عن ضياع الحقوق في ظل دولة مهمتها جعل القانون فوق إرادة الأهواء والنفوذ التي تعتبر ان انتاج الفسفاط تعطل ولم يتوقف.